مأساة أسرة الرومي _ انطباعات من أجواء معركة غزة 3 للكاتب العامري عبدرالكريم الحشاش - قبيلة بني عامر

مأساة أسرة الرومي _ انطباعات من أجواء معركة غزة 3 للكاتب العامري عبدرالكريم الحشاش



انطباعات من أجواء معركة غزة 3
للكاتب العامري عبدالكريم الحشاش
كتبت بتاريخ 12 نوفمبر، 2014


مأساة أسرة الرومي

يسكن أحمد الرومي مع أسرته المكوّنة من سبعة أفراد ثلاثة أبناء وبنتين وزوجة بيتاً مسقوفاً بالإسبست شمال غرب رفح، يعيش من العمل على جرار زراعي، أكبر أبنائه محمد يدرس في جامعة الأقصى، ويعمل في الدفيئات الزراعية بأجر يومي زهيد بالكاد يسدّ الرمق، ويوفّر له أجرة المواصلات للجامعة، كلّ ما ادّخرته الأسرة دفعوه مهراً لفتاة كانوا ينوون أن يزفّوها لحمادة كما يطيب لأهله مناداته بعد عيد رمضان، وكانت أمّه تصرّ على أن يكون الزفاف بعد عيد الأضحى، تقول الزواج بين عيدين ما هو زين! رغم ذلك أحضر محمد بعض ما يلزم للبيت الجديد كالعصفور الذي يجمع القش والخيط ليبني له عشاً ليبيض فيه، كان ينتظر أن يرفع الحظر عن الإسمنت ليكمل كسوة غرفة اقتطعها من بيت أهله، بينما كان محمد يؤمّ أهله في صلاة الظهر ليوم السبت 11/ 8 دوّى انفجار مهول وتبعه انفجار آخر، فغدا منزل أحمد الرومي أثراً بعد عين دون تحذير أو إنذار، اتّصل الجيران بمركز الإسعاف، خاف الناس من الوصول إلى المكان المستهدف، ولم يصله أحد إلاّ بعد نصف ساعة من القصف حين وصلت سيارتا إسعاف، وسيارتا دفاع مدني، فتشجّع الجيران، وخرجوا من بيوتهم وهرعوا إلى المكان المدمّر، وجدوا الطفل أمين ساجداً وملقىً على السياج، وكان الوالد أحمد وعبد الرحمن والطفلة صمود متفحّمين قرب حفرتي الصاروخين، كانت الوالدة وسماح قد مال عليهما جانب من الجدار، فكانتا في فجوة صغيرة مطمورتين بالردم والأنقاض، ولم يفطن المسعفون لوجود محمد، ظنّوه خرج ونجا، ولكن امرأة في بناية مقابلة دلّتهم عليه، فعثروا عليه مطموراً بالتراب بين دولابي الجرار المدمّر على بعد أمتار من البيت، لم يظهر منه سوى يديه المرفوعتين إلى أعلى ورأسه المتفحّم، حين انتشلوه كان فيه شيء من رمق، حملوا الشهداء والمصابين في السيارات، وغادر الجيران المنطقة من هول المشهد، وخوفهم من استئناف الطائرات للقصف من جديد، كانت نوافذ البيوت المجاورة قد تحطّمت، ورفع أحد الجيران راية بيضاء، وانطلق وأسرته إلى مدرسة تابعة لوكالة الغوث، بينما لحق بالشهداء والمصابين عدد من الشباب المتحمّسين إلى المستشفى الإماراتي سيراً على الأقدام، لم تحملهم سيارات الإسعاف والدفاع المدني، اكتفت بحمل الضحايا فقط، هذا المستشفى خاص بالولادة، تحوّل بعد يوم الجمعة حيث الهجوم البري على رفح وإخلاء مستشفى النجار إلى مكان طوارئ لاستقبال الضحايا، وصل الشباب إليه، وجدوا ساحة المستشفى تغصّ بالجثث والأشلاء التي تمّ نقلها على عجل من مستشفى النجار، الرائحة المنبعثة من الجثث لا تطاق، أخبرهم المسعف بأنّه وصل من منطقتهم أربعة شهداء وثلاثة مصابين، وقد تمّ تحويل الإصابات إلى المستشفى الأوروبي، اقتادهم إلى ثلاجة المستشفى لمعاينة الجثث التي وصلت حديثاً، وهي ثلاجة مخصصة للطعام وليست للجثث، حجمها متران في مترين، والجثث بداخلها فوق بعضها كثلاجة الجزار، وجدوا أشلاء لعائلة أخرى، وبمساعدة مسؤول الثلاجة رفعوا الأشلاء، وتعرفوا على الشهيد أحمد الرومي، وابنه عبد الرحمن، وابنه الآخر أمين، وأثناء البحث عثروا على الطفلة صمود، وعمرها خمس سنوات، ولم تكن مسجلة مع الضحايا، وضعوا الأسماء على الأكياس التي بداخلها الجثث، وأمرهم المشرفون بضرورة إخلاء الجثث التي تعرّفوا عليها حالاً لوجود جثث كثيرة خارج الثلاجة، لم يتمّ التعرف عليها بعد، فهي أولى بأن تبقى بحالة تمكّن أصحابها من التعرّف عليها لاستلامها ودفنها لاحقاً، فأخرجوا الجثث إلى الساحة، قام عثمان بالاتصال بخاله كسّاب، فاعتذر وقال إنه لا يستطيع الخروج من البيت، لفرض حالة من منع التجول التام على المنطقة بواسطة طائرات الاستطلاع بالقرب من الأماكن المقصوفة، وأضاف إذا قدرتم ادفنوهم، واتصل بكثيرين، ولم يبد أحد استعداده للمجازفة والخروج، كان معه شقيقه عمار وخاله أبو عمر، وابن خاله فوزي وخاله إبراهيم وابن خاله أسامة وصهيب، ونسيبه منصور ناجي، وجدوا في المستشفى جارهم عودة الله عبد العال، كان معه شهيدان، وقال يجب أن تدفن الجثث اليوم، يمكننا أن نصلّي عليها ولو بجوار المستشفى، وقال إنه ذاهب إلى المقبرة لحجز قبرين لشهيديه وأربعة قبور لهم، وأضاف: دبروا لكم وسيلة مواصلات لنقل الجثث إلى المقبرة. لا توجد في المستشفى حمالات ولا آليّات لحمل الجثث، فاتصلوا بمعارفهم الذين لديهم سيارات شحن، ولا من مجيب، اعتذر الجميع، ولم يعثروا على سيارة لا في الشارع ولا في تلّ السلطان بأسره، صادفوا سائق شاحنة بثلاث عجلات (تكتك) أمام المستشفى، فقال أنا معي أربع جثث ليس معي متّسع.
رجع عودة الله ومعه شاحنة بيجو، وكان قد وضع أعلى صندوقها ألواحاً خشبيّة، فغدا لها في الخلف طابقان، وحملوا عليها الجثث الستة إلى جامع سعد، وطلب عودة الله من المؤذن والحضور الصلاة على الجنائز حالاً بمن حضر من المصلين. فقال المؤذن: انتظروا بقي لأذان العصر دقائق، سيحضر أناس أكثر فيزداد الأجر، وأُجبروا على التريّث، وهم يريدون أن ينتهوا من المهمة في أسرع وقت ممكن لخطورة الوضع، وبعد صلاة الجنازة تحركوا إلى المقبرة على الحدود المصرية، وأخبرهم ناطور المقبرة أنّ القبور المحفورة قليلة، وجثث الشهداء كثيرة، وعليهم أن يدفنوا كلّ شهيدين في قبر، انصاعوا لطلب الناطور، وأخذوا في إخراج الرمل من القبور المحفورة، وأنهوا الدفن وعادوا للبحث عن باقي أسرة أحمد الرومي، كان السفر على الطرق بين رفح وخان يونس محظوراً، وبعد اتصالات مضنية عرفوا أنّ زوجة الرومي في المستشفى الأوروبي تعاني من كسر في الحوض وفي مرفق الذراع، وابنتها سماح في مستشفى ناصر، قد فقدت العين اليسرى وعظم الحجاج، وكسر مضاعف في الساق، وفي أيّام الهدنة أثناء الحرب أحضر لهم جارهم زعرب ذراع الشهيد عبد الرحمن، وجدها فوق دفيئته الزراعيّة، اتصلوا بالمفتي محمد لافي، سألوه ماذا بشأن يد الغلام المدفون، قال: من الأفضل أن تضعوها معه في القبر، فأخذوها إلى هناك، وقال لهم ناطور المقبرة: لا نسمح بفتح القبر ثانية، وبعد مفاوضات وجدال حفروا للذراع الملفوفة بخرقة بيضاء وموضوعة في كيس نايلون بين القبرين ودفنوها. 
طلب عثمان من صديق له في خان يونس أن يبحث له عن محمد وكان هذا الصديق يعرفه ودرس معه في الجامعة، قال له: ابحث في الجثث وغرف الإنعاش، فعثر عليه بعد التقصّي في مستشفى ناصر، كان في العناية المركزّة ونسبة الحروق بجسمه 80%، وهو فاقد للوعي، وليس معه ما يثبت شخصيّته، فزاره أقاربه، وقاموا بالتنسيق له للسفر إلى مصر بعد أسبوع للعلاج، حملته سيارة الإسعاف إلى معبر رفح يرافقه عمّه، واضطرّ للانتظار ثلاث ساعات على الجانب المصري، وحين وصل إلى مستشفى العريش، تبيّن لعمّه أنّ العناية في مستشفى ناصر بخان يونس أفضل منها في مستشفى العريش، وقالوا هذا لا يمكن نقله إلى القاهرة، حالته لا تسمح، سيموت في الطريق إذا نقلناه، يحتاج إلى سيارة إسعاف مجهّزة بوسائل إنعاش، غرفة العناية كانت حارّة غير مكيّفة، لاحظ عمّه تعاوناً واهتماماً من جانب الطاقم الطبي المصري، ولكن الإمكانات ضعيفة والأدوية مفقودة، والمكان غير معدّ لاستقبال حالات تحتاج إلى عناية خاصّة، ليس باليد حيلة قال أحدهم، حاول العمّ أن يعطي طاقم التمريض إكراميّة لاهتمامهم البالغ، فرفضوا وقالت إحدى الممرضات: نخدمكم من عينينا، لا نريد منكم شيئاً، إحنا لازم نساعدكم، كان الله بعونكم! مكث في المستشفى أسبوعاً، تفاءل عمّ محمد بشفائه عندما لاحظ أنّه فتح إحدى عينيه نصف فتحة ذات ليلة، وندت منه حركة خفيفة، ولكنّه تفاجأ في الصباح أنّه أسلم روحه إلى بارئها، وعاد به إلى رفح مع درب الآلام.
زوجة الشهيد الرومي لا تدري بفداحة وهول ما حلّ بأسرتها، وهي في غرفة الإنعاش، قالت لأختها: كيف الأولاد والبنات وأحمد، تقصد زوجها؟ فأجابتها: كلهم بخير. قالت: وأنت راجعة إلى البيت اطلعي اللحمة من الثلاجة، وأنا وضعت في الفرن الطيني عشرين شيكل أعطاني إيّاها أخي كمعايدة قبل أيام خذيها للأولاد يمكن هم في حاجة إليها الآن. لا تدري أن الثلاجة والفرن لم تبق لهما علائم، وعندما خرجت من المستشفى أخبروها أنّ ذويها يتلقّون العلاج في المشافي، وكلّما زارتها إحدى قريباتها حاملة البسكوت والعصير، تضعها جانباً وتقول لأخيها ارسلوها لصمود وأمين، لا تدري أنّ صمود وأمين قد هالوا عليهما الرمال.
أمّا سماح ذات الربيع السابع عشر سمحوا لها بالسفر لمصر مع خالتها لمواصلة العلاج، وأجريت لها عمليّة جراحيّة مبدئيّة على أن تعود بعد شهر لإجراء عملية لاستكمال العلاج، وحال إغلاق المعبر دون عودتها، وبقيت مع أمّها على أطلال المنزل تحت طرحة نايلون بين حفرتين عميقتين لصارخي F 16، اتقاء من المطر الوسميّ الغزير هذه السنة
.
كتبت بتاريخ 12 نوفمبر، 2014