الهاتف الأرضيّ نعمة أم نقمة _ إنطباعات من أجواء معركة غزة 1 للكاتب عبدالكريم الحشاش العامري - قبيلة بني عامر

الهاتف الأرضيّ نعمة أم نقمة _ إنطباعات من أجواء معركة غزة 1 للكاتب عبدالكريم الحشاش العامري

إنطباعات من أجواء معركة غزة 1

للكاتب عبدالكريم الحشاش العامري



الهاتف الأرضيّ نعمة أم نقمة


سبّب الهاتف الأرضي أرقاً شديداً لأصحابه ولجيرانهم في بداية المعركة الماضية في قطاع غزّة، فحين يرنّ الهاتف وتُرفع السمّاعة، قد يسمع صوت بلكنة عبرية يقول: أنا ضابط من جيش الدفاع الإسرائيلي أطلب من سكّان هذا المنزل مغادرته فوراً لأنّه سيقصف بعد ثلاث دقائق، فيهرع الساكنون إلى الشارع تاركين أثمن ما يملكون من وثائق وأوراق وأمتعة ونقود، فالروح أثمن من إيّ عَرَض ومقتنى، ومنهم من يسرع لا يلوي على أحد، فيسمع الجيران الجري على السلالم أو في الشارع، فيسألون عن السبب، أو يقدّرون الموقف ويغادرون هم كذلك على عجل، ومن الناس من يمتلك رباطة جأش ويدقّ على جيرانه، ويبلّغهم الرسالة، وحدث أن جادلت امرأة ضابطاً صهيونياً قائلة: لا نستطيع مغادرة البيت في غضون خمس دقائق عندنا عجوز مقعدة نحتاج إلى عشر دقائق كي ننزلها، وظلّت تجادله وتشير لأبنائها وبناتها بأن يخرجوا بعض الأغراض الثمينة قبل مغادرة البيت ونسفه، وتمكّن رجل من أن يخرج بعض أدوات المطبخ، ثمّ خلع باب الشقّة وحمله بعيداً، قبل أنّ يخرّ البيت، ويتهاوى على عروشه.

وإن لم يكن في البيت المستهدف هاتف أو كان معطلاً حينها يطلب الضابط الإسرائيلي من جار صاحب البيت أن يبلّغ جيرانه بضرورة مغادرة منزلهم لأنّه سيقصف، كما يطلب من الذين يكلّمهم مغادرة المكان أيضاً أو النزول إلى طابق سفليّ إذا كان البيت المستهدف بناء عالياً أو ملاصقاً.

وقد تكون المكالمة مسجّلة، وتطلب من سكّان المنطقة المغادرة إلى وسط المدينة، لأنّ المنطقة ستتعرّض إلى قصف عنيف، والناس بين مصدّق ومكذّب، فهم في حيص بيص، لأنّ بعض الأماكن تقصف بالفعل، وبعضها لم يقصف، وكانت الاستجابات لهذه المكالمات المسجّلة جزئيّة، وعندما يرنّ الهاتف يضع الناس أيديهم على قلوبهم، وبعضهم يقول: لا ترفع السمّاعة، وأحياناً يتقدّم أكثرهم شجاعة ويرفع السمّاعة عندما يرنّ الهاتف للمرّة الثانية أو الثالثة ليجد أنّ المتحدّث من الطرف الآخر خالته أو عمّته تريد أن تطمئن على العائلة بعد أن سمعت في الأخبار تعرّض المنطقة لقصف عنيف، أو تأتي رسالة مسجلة من شركة الاتصالات الفلسطينية تطلب تسديد فاتورة الهاتف المستحقّة لهذا الشهر في غضون أربع وعشرين ساعة وإلاّ ستقوم آسفة بقطع خط الهاتف!.

وقد تأتي مكالمة لصاحب بيت، فيخلي بيته ويقصف بيت آخر لم ينذر أهله، إذ تكون الأسماء متشابهة، وأحياناً يتمّ الاتصال على هاتف بأنّ البيت سيقصف بعد ربع ساعة، ولكنّه يقصف مباشرة أو بعد ساعة أو بعد يوم من التحذير، أو لا يتمّ قصفه أبداً.

وقد يتحدّث الضابط الإسرائيلي مع صاحب البيت ليتأكّد من وجوده، فيقصف البيت مباشرة غير عابئ بسكان البيت أو البناية، وقد يسأل الضابط من يرفع السماعة: هل عندك فلان الفلاني؟ وإن أُجيب بنعم، يتمّ استهداف البيت على عجل.

ومن الغريب أنّ بعض المكالمات كانت كاذبة للإزعاج أو الانتقام أو التشفّي، إذ قد يتصّل أحد الناس بصاحب شقّة من برج عال يحذّرهم من أنّ البرج سيقصف لأنّ رجلاً من المقاومين يسكنه أو لاذ به! أو قد يقول المتصل بصاحب بيت أو مستشفى إنّه مندوب الصليب الأحمر، ويطلب إخلاء المكان؛ لأنّ الجيش الإسرائيلي سيهدمه، فيُخلى المكان على عجل، وتكون هذه المهاتفة كاذبة.

وبعد انقضاء الأسبوع الأولّ من المعركة حين حمي الوطيس واستعر الهجوم البري والبحري والجويّ أصبح التحذير الهاتفي معدوماً، فالقذائف والصواريخ تنهمر خبط عشواء، واستخدم الهاتف كوسيلة ابتزاز وترهيب، وشرع الناس بقطع الهواتف إذا لم تكن قطعت من القصف.

والغريب أنّ الناس هنا ليس عندهم ثقافة الملاجئ لا العامّة ولا الخاصّة، ويقولون إنّ صاروخ إف 16 لا تنفع معه ملاجئ، وهو ينزل عشرة أمتار، رغم أنّ من كان عندهم تسوية تحت البيت ولجؤوا إليها أنجتهم من قذائف الدبابات والزوارق البحريّة التي تأتي من بعيد وتصيب الشقق العالية وحتّى من بعض صواريخ الزنّانة!
كتبت بتاريخ 2 نوفمبر، 2014